أمين عام المركز اللبناني للدراسات الاستراتيجية
مع سقوط نور السعيد في العراق، وجدت الولايات المتحدة أنّ الخطر بات مُحدِقاً على جبهة حلف بغداد، فقامت بإنزال بحري لقوات الـ"مارينز" في بيروت، وبمسعى ديبلوماسي حثيث بالتنسيق مع جمال عبد الناصر أدّى إلى انتخاب رجل الاستقرار والاستقامة. أراد الأميركيّون وقف المَدّ الناصري ومن ورائه السوفياتي المقنّع.
وفي كانون الأول 2024، مع سقوط بشار الأسد، وجدت المملكة العربية السعودية أنّ شيئاً ما تغيّر في التوازنات الإسلامية. رجب طيب أردوغان في دمشق، والمندوب القطري يستكمل الحياكة باتجاه قصر بعبدا، فكان التدخّل الديبلوماسي الصاعق للثنائي الأميركي والسعودي، مزكّياً رجل الاستقرار والاستقامة.
كثيرةٌ هي نقاط التقاطع في الظرف الخارجي، والتوازنات الداخلية، من ثنائية مصرية-أميركية عام 1958، إلى ثنائية أميركية-إيرانية عام 2025 دخل عليها السعودي قالباً كل الموازين.
عرف فؤاد شهاب كيف يراعي التوازنات من دون أن يقع في فخ الانحياز لفريق داخلي أو خارجي، أو في شلل الورشة الداخلية، فبنى النهج على ركام طبقة عقيمة أوصلت البلاد إلى حرب أهلية، كادت أن تنهي قصة بلاد الأرز.
وكثيرةٌ هي تقاطعات خطابَي القسَم من إرادة التحرير، عند فؤاد شهاب، "تحقيق انسحاب القوات الأجنبية من على أرض الوطن بأسرع وقت"، إلى جوزاف عون، "إزالة الاحتلال الإسرائيلي وردّ عدوانه على كافة الأراضي اللبنانية".
في جعبة الرئيسَين وعدٌ أميركي بتحقيق السيادة، ففي تشرين الأول 1958، أي شهر واحد بعد جلسة الانتخاب، انسحب الجيش الأميركي من لبنان ليستكمل آموس هوكشتاين المشهد الموازي اليوم، بوعد انسحاب جيش العدو الإسرائيلي بمهلة لا تتعدّى الشهر الواحد، من جلسة انتخاب الرئيس جوزاف عون. وتبقى معضلة شبعا وكفرشوبا بعهدة ديبلوماسية الرئيس في الأشهر أو السنوات المقبلة.
ذكر العسكريّان سيادة الدولة والقانون والإصلاحات، وترميم علاقات لبنان العربية، وأدّيا الشكر والتحية إلى المؤسسة العسكرية. وعلى رغم من الوهج القوي للانتخابَين، ظهرت واضحة عبارات الشراكة والتواضع، فمن فؤاد شهاب: "الدعامة الكبرى تبقى في ميثاقنا الوطني، ووحدة صفوفنا"، إلى جوزاف عون: "مهما اختلفنا عند الشدّة، نحضن بعضنا، لأنّه إذا انكسر أحدنا انكسرنا جميعاً".
ويُضيف فؤاد شهاب: "أطالِب كل مواطن أن يقطع على نفسه العهد بأن يَفي بمسؤوليّته، ويقوم بكامل واجبه... النهوض يحتاج إلى معاونة المواطنين جميعاً"، ويضيف أيضاً جوزاف عون، "وُرَش عمل كثيرة لا قُدرَة لي عليها وحدي، إنّها مسؤولية السادة النواب والوزراء والقضاة والأحزاب والمجتمع المدني".
ما لم يقله شهاب في خطاب القَسَم، عبّر عنه عون في لفتتَين تعنِيان الكثير، الأولى: "هي أزمة حُكم وحُكّام، وعدم تطبيق الأنظمة"، والثانية: "اليوم تبدأ مرحلة جديدة من تاريخ لبنان".
المحطة الأهم في الخطاب هي عندما يقف رئيس الجمهورية ويخاطب الحُكّام مجتمعين، ويقول: "هي أزمة حكام"، ويعلن عن بدء مرحلة جديدة من تاريخ لبنان، فهو تعبير عن إرادة واضحة بالتغيير والتأسيس لنهج جديد، ينتج حُكاماً جدداً على صورة القائد والرئيس.
يُخطئ المؤرّخون عندما يَذكرون الحكومة الرباعية كأول حكومة في عهد شهاب، فالرئيس شهاب حاول قبلها تمرير حكومة من دون حُكّام، تلك كانت رغبته، وعندما تعرّضت إلى ضغوط الشارع قدّمت استقالتها متيحةً المجال لحكومة "الحُكّام" الرباعية، بناءً على نصيحة ريمون إده. عرف فؤاد شهاب كيف يُغيّر تاريخ لبنان لغاية العام 1967، مع سقوط النهج بضربة الحُكّام القاضية من خلال تحالف "الحلف الثلاثي" في الانتخابات النيابية.
إنّها الإرادة المتكرّرة والاستقامة المتكرّرة. يتشابه الرئيسان إلى أقصى الحدود، وقد تختلف ظروف حُكمهما إلى أقصى الحدود، وتبقى حدود اللعبة محكومة بالتطوّرات الجيوسياسية، علّها هذه المرّة تعطي الشعب اللبناني حقه بعد صدمات وتعثرات كبيرة، لم تهزم قوة إيمانه وثقته بالقدرة على استكمال بناء دولة فؤاد شهاب.